مدخـــــــــل
مقارنة مع ما يجري في الديمقراطيات العريقة ، يمكننا القول بأننا ما زلنا في مرحلة التحضير لبيئة وطنية ديمقراطية جديدة ، حيث لم نبلغ بعد بناء الدولة الديمقراطية.
الديمقراطية نظام واضح من الإجراءات والعلاقات المحكومة بقوانين و دستور ، نقف على مسافة غير منظورة منها في العراق الآن ، ما زلنا بانتظار الكثير من التشريعات والقوانين التي تنظم أحوال السياسة والاقتصاد والمجتمع ، وفقاَ لما تستلزمه الديمقراطية ، ليتاح لنا القول إننا في دولة ديمقراطية.
تشكيل الوعي المجتمعي
الديمقراطية وقبل أن تكون نظاما هي عقد اجتماعي، اختيار ناجم من طبيعة حاجات وثقافة القوى الاجتماعية و السياسية.وفي ظروف ما بعد 2003، تفاعلت في المشهد العراقي قوى سياسية و اجتماعية و ثقافات ليست جميعها صاحبة مصلحة بالديمقراطية. و بذلك أصبحت ديمقراطيتنا هويةً جامعة تمترست خلفها أجندات امتدت على أوسع مساحة بين التطرف والاعتدال.
في مقابل هذا المشهد المضطرب ، ثمة تشكيل مضطرب آخر هو الوعي الشعبي، حيث تدرك الملايين أن ضالتها في الديمقراطية.. لما فقدته من حريات وعدالة ورفاه..غير أن المشكلة تكمن في ضعف وعي هذه الملايين بمصالحها الحقيقية لكي تهتدي إليها ، و في ظل هذا التوازن تشكل ظرف انتقالي لبيئة محكومة بصراع إرادات ، لعل الأضعف من بينها إرادة المؤمنين بالديمقراطية .
هنالك مساحة خطرة تبدأ من حيث تنتهي صلاحيات المؤسسات الدستورية الشرعية ، و تنتهي عندما تبدأ فعاليات الحرية الشخصية للمواطن في المجتمع . هذه المساحة هشة بطبيعتها ، فهي تتقلص عندما تزداد سلطة الدولة بمؤسساتها الأمنية و أدوات الضبط الاجتماعي ، حتى تنعدم في حالة هيمنة الدولة بصفتها التسلطية و الدكتاتورية . و هي تتسع في حالة ضعف مؤسسات الدولة في ضبط إيقاع حركة المجتمع ، و بذلك تكون هذه المساحة بيئة صالحة لنشوء تنظيمات عشوائية و متطرفة و مسلحة أحياناَ ، حيث تستغل ضعف مؤسسات الدولة لفرض سطوتها و تحقيق مصالحها الخاصة .
وجدت الديمقراطيات الحديثة، في مساعيها لملأ هذه المساحة الخطرة بعيداَ عن الأساليب القهرية ظالتها فيما نسميه (المجتمع المدني ) . فهو نسيج متشابك من التنظيمات و العلاقات تقوم على تبادل المصالح والمنافع والحقوق والواجبات تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة ،تنشأ لتحقيق مصالح أفرادها أو لتقديم خدمات أو ممارسة أنشطة إنسانية . وهي ليست أمنا للأنظمة وإنما أمن للناس وتأمين احتياجاتهم الاجتماعية في بحر هائل من الطاقات المتوفرة لدى الناس ، وبذلك أصبحت المنظمات غير الحكومية وانتشارها وحريتها معيار للحرية السياسية في الدول الديمقراطية .
المجتمع المدني ينظم المجتمع و يفجر الطاقات
يعتبر نشاط المجتمع المدني دلالة على نضوج العمل السياسي وتكامل العلاقة بين الدولة والمجتمع ، حيث تصبح طاقات المجتمع المعزولة و المهمشة ، مادة للتطور والحيوية ، فتلقي بظلالها على الواقع السياسي فتنتشله من الجمود والتناحر والتشتت.
يستطيع المجتمع المدني خلق مرجعيات قانونية و مؤسسات دستورية قادرة على مواجهة الأزمات بسهولة ويسر لان الفرد يصبح هو الكل والكل هو الفرد ، وهذا التحول في العلاقة بين الفرد والمجتمع هو الذي يجعل الأمم تنشغل في خلق أو صنع روح المواطنة المنفتحة على الآخر بكل تنوعاته، مما يجعل بناء الدولة قويا ومتماسكا و هنا يؤسس المجتمع المدني ركيزة مهمة في بناءه الديمقراطي .
تستطيع قوى المجتمع المدني ، من خلال خبراتها و ممارساتها وتأهيلها على تحديد مقدار احترام سيادة القانون والفصل بين السلطات وتطبيق الدستور ومنع التلاعب به أو خرقه تحت أي ذريعة .
قوى المجتمع المدني تجعل من السلطة في كل اتجاهاتها مسؤولية أخلاقية وإنسانية لا يمكن حملها إلا بالنزاهة والأمانة . وهنا تتقلص مساحة الاستئثار بالسلطة وروح الغلبة و الاعتقاد بأن المناصب غنيمة و إن المال العام و ممتلكات الدولة و ثرواتها ملك مشاع لا رقيب له.
إن انعدام التمايز الفعال بين الأفراد يشكل مصادرة لإرادة الفرد والمجتمع ، يكبل الجميع ويجعلهم غير قادرين على إطلاق مواهبهم وقدراتهم ، فيولد حالة من الركود والجمود . إن الانتقال إلى مجتمع مفتوح ، يعتمل في داخله الحراك في كل الاتجاهات ، يتطلب جهودا ومساعي كبيرة لبث الحياة في ثناياه ، لقيادته إلى حيث الشعور بالمسؤولية والإحساس بالحرية والقيمة الإنسانية بعيدا عن الاستلاب ومصادرة الحقوق.
تحليل واقع عمل منظمات المجتمع المدني في العراق
لا يمكن تقييم وضع و عمل و تطور منظمات المجتمع المدني العراقية ، إلا بعد معرفة العوامل المؤثرة في مسار المجتمع المدني و دوره في تدعيم العملية الديمقراطية في العراق، وهي :
1- خصوصية حداثة التجربة العراقية في مجال المجتمع المدني ، وهي تتلخص بما يلي:
أ- المرحلة الانتقالية.
ب- حداثة التجربة الديمقراطية منذ 2003 و لحد الآن.
ت- الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تنقصه الحريات و التشريعات الواضحة .
ث- الطابع الثقافي الديني والشمولي الطاغي على المجتمع بكل مكوناته .
ج- الحقائق التاريخية والجغرافية المحيطة بالعراق و الخالية من التجارب الديمقراطية الجاذبة.
2- عدم وجود فهم واضح لدور و وظائف المجتمع المدني في العراق من السياسيين و المسؤولين الحكوميين و عدد من العاملين في المنظمات نفسها ، مما يعقد بناء آليات التعاون و الشراكة في العمل ، إن ألتوق إلى الحرية يكاد أن يكون أمرا فطرياً، لكن ممارسة الديمقراطية أمر ينبغي تعليمه واكتسابه .
3- غياب أو ضعف وجود التدريب و بناء القدرات لكوادر المنظمات لتأمين تأهيل المنظمات لتجاوز مرحلة الحداثة و الانتقال إلى مرحلة الإنجاز .
4- ندرة أو عدم وجود مصادر تمويل ثابتة أو مضمونة ، تستطيع تأمين استمرارية عمل المنظمات و تساعدها على تجاوز أعباء كلف التواجد في مكاتب لائقة و مواكبة و دراسة مشكلات وتطورات المجتمعات المحلية لوضع الحلول المناسبة لها . إن الديمقراطية ليست مفهوماً نظرياً مجرداً بل هي في حقيقتها نظام حياتي متكامل الأبعاد يتميز بالواقعية والوظيفية.
5- ضعف آليات بناء جسور الثقة والشراكة بين المنظمات و مجالس المحافظات و المجالس المحلية و المؤسسات الحكومية الأخرى،في تعاطيها مع المشكلات التي تواجه المجتمع،بغية وضع الإستراتيجيات و الحلول المناسبة لحل المشكلات و تطوير المجتمعات .
6- ضعف نوايا مجالس المحافظات في إيجاد شريك لها يساعد في تحسين أواصر العلاقة بين المؤسسات و المواطن ، و هو ناتج عن ضعف فهمها و استيعابها لدور و أهمية المنظمات .
7- عدم وجود قانون ينظم عمل منظمات المجتمع المدني ، يبلور لها مرجعية تحميها من التحديات و يؤمن لها وضع قانوني و معنوي وسط التحديات العديدة .
8- عجز عدد كبير من المنظمات من تسويق نفسها و منجزاتها و قدراتها الذاتية المتيسرة ، بسبب ضعفها الإعلامي و التدريبي .
تحديد المشكلات الرئيسية
على ضوء التحليل أعلاه ، يمكن إيجاز المشكلات الرئيسية في ثلاث ، هي ؛
1- ضعف التمويل .
2- ضعف التدريب و بناء القدرات .
3- عدم وجود فهم كاف للدور و الحاجة للمنظمات في ترسيخ البناء الديمقراطي .
الحلول و المقترحات
1- إنشاء صندوق تمويل منح لمشاريع تنموية و تثقيفية و تكميلية في كل محافظة( صندوق دعم الديمقراطية) يرتبط بمجالس المحافظات و تخصص له ميزانية بنسبة مئوية معقولة من الميزانية السنوية لكل محافظة ، تقدم المنظمات مقترحاتها لتنفيذ تلك المشاريع ، و تنفذ المنظمات الممنوحة مشاريعها بإشراف لجنة منظمات المجتمع المدني في مجلس المحافظة .
2- تنفيذ نفس آليات صندوق تمويل المنح أعلاه على مستوى العراق( الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية) لتنفيذ مشاريع إستراتيجية و إقليمية ، يرتبط بمجلس النواب .
3- إلغاء وزارة الدولة لشؤون منظمات المجتمع المدني ، و جعل آليات تسجيل و إصدار شهادات التسجيل محلية ، وتصدر من لجنة المنظمات في مجالس المحافظات ، و التي تقوم بمتابعة عمل المنظمات وفقا للقانون .
4- إنشاء مراكز / معاهد تدريب و تطوير وطنية في كل محافظة، تستمد كوادرها من منظمات المجتمع المدني ، على غرار فروع المعهد الديمقراطي الدولي NDI أو المعهد الجمهوري الدولي IRI ، تأخذ على عاتقها مسؤوليات تدريب و تطوير قدرات كوادر المنظمات و مجالس المحافظات ، كما تقوم بالإشراف على تنفيذ المشاريع من قبل المنظمات الممنوحة ، ترتبط من الناحية الإدارية بمجالس المحافظات و من الناحية الفنية بمجلس النواب العراقي .
5- يطلب من منظمات الأمم المتحدة و الجهات المانحة العاملة في العراق حالياَ ، تقديم المساعدة لإنشاء و تنفيذ الآليات أعلاه ، و تدريب الكوادر المحلية المناسبة لهذا العمل في مؤسسات تدريبية متخصصة ، و لحين تكامل قدراتها و هيكليتها .
6- تقوم مؤسسات الأمم المتحدة العاملة في العراق بتوسيع شراكتها مع عدد أكبر من منظمات المجتمع المدني الحالية بغية إظهار و صقل قدرات تلك المنظمات و تحفيزها على تطوير ذاتها.
7- تحفيز الجهات الدولية المانحة المختلفة على زيادة شراكاتها في العراق بغية تحفيز عدد أكبر من المنظمات على العمل و إثبات قدراتها ووجودها بين أوساط المجتمع .
8- الاهتمام بالجانب الإعلامي و الصحافة المدنية و صحافة المنظمات ، لتمكين المنظمات من تسويق نفسها و منجزاتها و زيادة مساحة الاهتمام بها ، سواء كان ذلك من خلال منح لمشاريع إعلامية أو تطوير مؤسسات محلية موجودة حالياَ .
التجربة اللبنانية في تعزيز آليات التعاون و الشراكة
عند زيارة كادر معهد أكد الثقافي إلى كل من مدينتي صيدا و بيروت في لبنان، في شهر نيسان الماضي ، و اللقاء ببعض مسؤولي منظمات المجتمع المدني وبعض أعضاء مجالس المحافظتين المذكورتين ، بينت وجود أواصر شراكة قوية و عمل تكاملي مشترك ناجح، تعود أسبابه إلى ؛
1. أصول بعض أعضاء مجلس المحافظة من منظمات المجتمع المدني .
2. تنفيذ مشاريع مشتركة يكون تمويلها من جهات حكومية أو دولية ، والأشراف من قبل أعضاء مجلس المحافظة ،أما التنفيذ فيكون من قبل منظمات المجتمع المدني .
3. استعانة أعضاء مجالس المحافظات بالمنظمات في الوصول إلى المناطق المتضررة ، المهجرين ، المنكوبين، المعوزين والفقراء ، مناطق الأوبئة والأمراض، لمعرفة طبيعة الحالات واعتبار ذلك مقياس لمصداقية عمل الجهات الحكومية والمؤسسات المرتبطة بالدولة .
4. الاستشارات العلمية والسياسية والاقتصادية والتطبيقات الديمقراطية بمختلف أنواعها واختصاصاتها التي يطلبها المجلس من المنظمات وفقاَ لقاعدة المعلومات و البيانات التي يمتلكها .
5. استطاعت المنظمات العمل و الحركة في المناطق الساخنة التي لم يستطيع المسئولون الحركة فيها بأمان في ظروف معينة ، وبذلك استطاعت أن تملأ الفراغ بين الحكومة والمواطن قبل أن تنفرد به المجموعات المتشددة والمسلحة .
6. عدم وجود مشاكل التسجيل و التجديد و الحصول على الشهادات الموجودة حالياَ في العراق بسبب التسهيلات القانونية .
مساعي لصياغة تجربة عمل المنظمات في محافظة بابل
في لقاء جمع عدد من منظمات المجتمع المدني مع عدد من أعضاء مجلس محافظة بابل لمناقشة آليات تعزيز الشراكة و التعاون بين الطرفين ، عبرت المنظمات عن استعدادها لتقديم القدرات و الخدمات و الإمكانيات التالية إلى مجلس المحافظة و خدمة أبنائها ، و كما يلي ؛
1. تقديم الخبرة الإدارية والتدريب والتأهيل الإداري والفني لكافة أعضاء المجلس .
2. تقديم الاستشارة في مختلف الميادين و الاختصاصات.
3. مساعدة الحكومة في الاطلاع على مستويات تنفيذ المشاريع ورضا الناس عنها .
4. تنفيذ مشاريع خدمية صغيرة و متوسطة لتجميل المدينة كمقاولات أنشاء الحدائق ، المتنزهات ، المستوصفات ،دور الحضانة ..الخ .
5. تنفيذ المشاريع التنموية و التثقيفية لبناء الوعي الديمقراطي والسياسي لدى الناس وبإشراف اللجان المتخصصة في المجلس.
6. كشف حالات الفساد المالي والإداري والإبلاغ عنها قبل تفشيها بشكل لا يمكن السيطرة عليه لاحقا .
7. كشف التجاوزات الحكومية على حقوق المواطنين في كافة الميادين .
الأهداف المشتركة
بعد هذا اللقاء توصل الطرفين إلى وجود الأهداف المشتركة التالية ؛
1. تعزيز المشاركة الواسعة لأبناء المحافظة في الممارسات الديمقراطية وأهمها الانتخابات .
2. الإصلاح القانوني والتشريعي بما يخدم تطبيق العدالة والمساواة بين الجميع .
3. تعزيز الوعي بأهمية العملية السياسية وأساليب دعمها لتحقيق مصالح المواطنين .
4. الوصول إلى تطبيقات مبادئ الحكم الرشيد .
5. السعي لتحقيق المصالحة الوطنية ، تخفيض مستويات العنف بكافة أشكاله .
6. تنمية و تطوير الموارد البشرية لإشراكها في خطى التنمية ، و زيادة الوعي بأهمية دور المرأة في العملية التنموية و تحسين أدائها و أدوارها التنظيمية و الإنتاجية .
الخـلاصـة
العراق اليوم بأمس الحاجة إلى الانتقال من حالة عدم الاستقرار إلى موقع مستقر يستأنف فيه البناء والتأهيل لمؤسسات الدولة العاملة في الساحة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. و كذلك صيغ العلاقة في تنظيم حياة المجتمع بشكلها الملتزم النافع ، و الانتماء للوطن الواحد .. و هذا هو الطريق الوحيد الذي سوف لا يسمح بوجود مكان للخارجين عن القانون و قوى التدمير التي تريد العبث بالمواطن وحقوقه وحريته ومؤسساته الشرعية و الدستورية .
عدنان بهية
07801201843- 07700801001
adnanbhaya2003@yahoo.com
akadian08@yahoo.com
معهد أكد الثقافي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق