الأحد، 27 سبتمبر 2009

تجليات في الهوية الوطنية العراقية


" العراق وطن كفى بالله في العلا حاميه ، و بدجلة و الفرات يحتضناه ، والوطنية العراقية كتبت بالشرائع و المسلات ، وعلمت العالم القراءة و الكتابة منذ آلاف السنين ، فهي تحتاج ثوب الوطن الواحد بخيوطه التاريخية لتزهو و تنمو وتحتضن مكونات و ألوان تعدديته الجميلة "
عدنان بهية
يمتد مفهوم الوطنية بشكل عام نحو بعدين ؛أولهما معنوي و ثانيهما تاريخي ، وهي أبعاد ترتقي إلى العلاقة الأزلية بين الذات الإنسانية للفرد وانعكاس هذه العلاقة في بعدها الإنساني الكبير، و بعدها الجغرافي المكاني الذي يمكنها من إنتاج الحضارة . يمكن مقاربة هذا المفهوم نظرياً عبر تلمّس مسارين ؛ أولهما مشروعيتنا في الولادة و العيش في الوطن المحدد ، وثانيهما العناصر التي تحكم السياق الذي يترعرع فيه الإنسان كمفهوم للثقافة والصيرورة و الإبداع . و كلاهما ( أي الولادة و الصيرورة ) تشكل العناصر الأساسية للانتماء الإنساني الذي يرسم ملامح الهوية الوطنية للإنسان .

ولعل مسألة تحديد مقومات الهوية الوطنية من أكثر القضايا صعوبة و حساسية لأنها قد تنطوي أحياناَ على إغراءات فكرية أو مادية قد تمتد خارج البعدين الموضوعي و المكاني في تحديد هذه المقومات.

و على سبيل المثال ؛ طرحت الماركسية مفهوما ً أُمميا ً للهوية تجسد في شعار" يا عمال العالم اتحدوا" الذي دعا إلى وحدة عمال بلدان العالم على أساس طبقي يتجاوز الحدود و المقومات القومية و الدينية. و في مثال آخر ، طرح مفكرو الإسلام الأوائل المفهوم الاممي الإسلامي للوطنية الإسلامية والتي تضم كل شعوب البلاد الإسلامية ، حتى انه تم تأسيس الجامعة الإسلامية من قبل رواد النهضة الإسلامية أيام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

بعد الاستعمار الأوربي لبلاد العرب،أخذ هذا المفهوم في التضاؤل وأصبح مفهوم الوطنية يأخذ منحى آخر ، حيث ظهرت نزعات وطنية في مصر والعراق وسوريا والمغرب العربي تأخذ أو تركز على المفهوم الوطني الجغرافي بمعنى تحرير هذه البلدان من قبل أبنائها بعيدا عن الجامعة الإسلامية أو الروابط الأممية وحتى القومية.

فأنتجت هذه الحالة تنامي الروح الوطنية نتيجة عدة أسباب لعل أبرزها فشل المشروع الإسلامي في لم شمل الأمة بسبب إتجاهاته المذهبية المتعددة . و السبب الآخر هو إن هذه الشعوب أنتجت سياقات تطور اجتماعي و اقتصادي و سياسي ضمن حدودها القطرية يختلف بعضها عن بعضها الآخر ، وفي منتصف القرن الماضي وجدت الأمة نفسها أمام المشروع القومي العربي المشابه لما طبق في بعض تجارب الأمم الأوربية الكبيرة ،مما جوبه بالرفض من قبل الكثير من الدول العربية ،ولم يحالفه الحظ رغم الشعارات التي رفعها . ولعل من أهم أسباب الفشل القومي ، هو إن الواقع ألتجزيئي قد أوغل في ترسيخ حقائق كانت أكبر من أن يتجاهلها القوميون و الإسلاميون على حد سواء .

أليوم نحن أمام صيرورة جديدة للهوية العراقية و امتداداتها التاريخية في بلاد مابين النهرين ، والحديث هنا يأخذ مسارين ؛ الأول إن العراقيين عرفوا عبر التاريخ بأنهم أصحاب الحضارة السومرية والاكدية والبابلية ، وهو وجود تاريخي سبق كل المفاهيم التي ظهرت لاحقاَ ،حتى إن الدولة الإسلامية التي امتدت كثيرا باتجاهات الشرق و الغرب ، كانت تنظر إلى أهل العراق نظرة خاصة وتسميهم باسمهم أهل السواد ، و الثاني ؛ إنهم في الأثر التاريخي الاجتماعي تم تميزهم بطباع ذكرت العديد منها في نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام ، وكثيرا ما ابتدأت خطب أمير المؤمنين( بـــــ ـ يا أهل العراق. ) كما إن هذا الاسم استمر في عهد الدولتين الأموية والعباسية، وخطبة الحجاج مشهورة "يا أهل العراق إني أرى رؤوسا أينعت".

فالهوية العراقية كانت متميزة أصلا وحافظت على استقلاليتها عبر العصور ولم تندمج كثيرا مع بقية المفاهيم ، بل استمرت و تبلورت في العصر الحديث منذ عام 1921 ، فكانت النقطة الأكثر وضوحا أمام كل المسميات الأخرى ، و منها محاولات التشتيت ضمن مفهوم القطرية ، التي سببت الكثير من الخسائر و الجرائم و الآلام التي ارتكبت بحق الشعب العراقي ، و كذلك محاولات الطمس الإثني و المذهبي الذي نواجه بعض حالاته اليوم .

تتضمن الهوية الوطنية العراقية كل ما يميز العراقيين فهم شعب متعدد الأعراق والاثنيات والقوميات وتتعدد فيه اللغات، يسكنون عبر تاريخهم في ارض واحدة هي بلاد ما بين النهرين وفي ظل نظام سياسي واحد ، و إن هذا التنوع فرض نفسه خلال الفترات الطويلة من التعايش السلمي التي سادت بين العراقيين ، كما فرضت الهوية الوطنية نفسها في حالات الاقتتال ضد الوجود أو الغزو الأجنبي؛ من سلاجقة ، بويهيون، أتراك ،صفويون ،و انكليز و متعددي الجنسيات .

يذكر المؤرخ العراقي الكبير علي الوردي إن أهل العراق لم يتقاتلوا إلا مع وجود الغزو الأجنبي ، بينما يسود بينهم الوئام في حالات الاستقرار والتحرر وهذا جزء مركب من الهوية العراقية. إن التنوع العرقي من " عرب، كرد، تركمان، و أية أقليات صغرى أخرى.أو التنوع الديني ؛ مسلمون، مسيحيون، إيزيديون ، صابئة" ولد نوعا مميزاَ من التسامح ، مما أضفى إليه جزء مهماَ من سمات الهوية العراقية. وبالتالي مكن هذه الهوية من الصمود أمام الغزوات عبر تاريخها ضد المعتدين .

بعد 2003 حصلت تعديات كثيرة على هذه الهوية ، منها عمليات إقصاء أو تشويه أو تهميش من قبل جهات تكفيرية وطائفية ، و التي أرادت بمجمل عملياتها أن تتآمر على الروح الحية التي يتميز بها المجتمع العراقي ، حتى إنها مهدت لتأسيس تجمعات أو تكتلات طائفية و أخرى قومية متشددة كانت الغاية منها إضعاف الهوية الوطنية العراقية ، مثل مشروع بايدن و غيره .

أرجوكم أن تشبهوا مفردات انتماءاتنا العراقية و هويتنا الشخصية و كأنها نجوم اكتست ألوان مختلفة لكل منها ؛ سومري ، بابلي ، آشوري ، أكدي ، بغدادي ، بصري ، موصلي ، حلي ، عربي ، كردي ، آثوري ، أرمني ، مسلم ، مسيحي ، أزيدي ، صابئي ، سني ، شيعي ، كاثوليكي ، بروتستانتي ، أرذثوكسي ، موسوي ، شمري ، أسدي ، تميمي ، جبوري ، دليمي ، عسكري ، مدني ، أكاديمي ، كاسب ، متقاعد ، ذكر ، أنثى .. وهكذا دواليك . و كان لكل من هذه الانتماءات و الألقاب تردد لوني خاص به ضمن طيف ضوئي أسمه قوس قزح ، فكم لون من هذه الألوان سيشكل به طيفه الخاص ، وهو بمعنى آخر هويته الشخصية . و لاحظوا كم سيتشارك كل واحد منا في العديد من ألوانه مع الآخرين من أخوانه ، فرادى أو مجموعات ، من شمال بلادنا إلى جنوبها ، و سنجد إن المشتركات أكثر بكثير من المختلفات ! و تصورا لون إن لون واحد فينا طغى بتردده على بقية الألوان ..! فماذا سيحصل ؟ بالتأكيد .. إن الذي يحصل هو إن لكل واحد منا سيكون له لون واحد يسدل الستار على كل ما لدينا من جمال بقية الألوان . و أكيد إنك قد لا تجد هذا اللون في هويات العديد ممن هم قريبون منك في السكن أو العمل ، و بالتالي سنتقاطع بدل أن نتداخل .. و بدل أن تكون خارطة العراق فسيفسائية متجانسة جميلة ! ستكون مرقعة غير منسجمة في تكويناتها .

و هنا أضع بين أيديكم القواعد و الخصائص التي ينبغي أن يضعها الإنسان لصياغة الهوية و الانتماء:

• الانتماء (إلى مجموعة) حاجة طبيعية للأفراد أينما كانوا

• الهوية الفردية تتألف من انتماءات متعددة

• للانتماءات ميزات طبيعية أو مكتسبة ، اختيارية أو إلزامية

• لكل شخص هوية فريدة لديها تركيبة فريدة: ولا توجد نسخ طبق الأصل للهويات حتى لو كان الأفراد من بيت واحد

• إن مدى الاختلاف و التشابه بين الأشخاص نسبي

• الهوية الفردية في تطور مستمر : حيث لا توجد حقيقة نهائية واحدة

• لا يمكن اختزال الهوية الفردية في انتماء أحادي يجتاح الهوية بمفرده

• الانتماء الفردي لا يلغيه الانتماء الجماعي
العراق وطن كفى بالله في العلا حاميه ، و كفى بدجلة و الفرات يحتضناه و يروياه من جباله إلى بحره ، والوطنية العراقية لا تحتاج أقنعة محددة لتتعلم النطق ،لقد كتبت في العديد من الشرائع و المسلات و علمت العالم القراءة و الكتابة منذ آلاف السنين ، هي تحتاج ثوب الوطن الواحد المتين بخيوطه التاريخية لتزهو و تنمو من جديد ،ولكي تحتضن في ضلالها الوارفة كل المكونات و الألوان و فسيفساء التعددية الجميلة.










ليست هناك تعليقات: